اندفاع محموم

الخليج 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

تتشكّل ملامح القوة المعاصرة عبر قدرة الدول على تحويل الرؤية إلى بنى قائمة وأنظمة تعمل ونتائج ملموسة. في هذا الإطار يقدّم كتاب «اندفاع محموم: سعي الصين إلى هندسة المستقبل» للباحث والمحلل التكنولوجي دان وانغ قراءة معمّقة للصين بوصفها دولة تُدار بعقلية هندسية، حيث تتداخل السياسة مع التخطيط والبناء والتنفيذ. ومن خلال معايشة مباشرة وتحليل سياسي واقتصادي، يضيء الكتاب الكيفية التي أصبحت بها الهندسة إطاراً منظِّماً لفهم الدولة والمجتمع ومسار التطور في الصين المعاصرة.
ينطلق دان وانغ في هذا الكتاب الصادر عن دار دبليو. دبليو. نورتون آند كومباني، في 2025، باللغة الإنجليزية، ضمن 288 صفحة، من معايشة مباشرة امتدت قرابة عقد من الزمن داخل الصين، متنقلاً بين مدن كبرى مثل شنغهاي وتشونغتشينغ وشنتشن، حيث تتجسّد الدولة بوصفها مشروعاً هندسياً ضخماً. الجسور العملاقة، وشبكات القطارات السريعة، والمصانع المترامية، جميعها تشكّل علامات على قدرة استثنائية في الإنجاز السريع وتحقيق نتائج اقتصادية ملموسة خلال زمن قياسي. غير أن هذا التقدّم، كما يبيّن الكتاب، لم يأتِ بلا كلفة إنسانية واجتماعية.


الدولة ومنطق التنفيذ


يقدّم دان وانغ فكرة مركزية تقوم على النظر إلى النمو السريع والتشدّد السياسي بوصفهما جزءاً من بنية واحدة يسمّيها «الدولة الهندسية». في هذا النموذج، تُدار الدولة بعقلية التخطيط الشامل، حيث تحضر المشاريع العملاقة بوصفها أدوات تنظيمية، ويُنظر إلى المجتمع كمنظومة مترابطة قابلة لإعادة التشكيل. ضمن هذا الإطار، تتكامل السياسات الصارمة، وأنظمة المراقبة، وإدارة السكان مع منطق البناء والتسريع، لتصبح عناصر أســـاسية في طريقـــة الحكم وصناعة القرار.
يعتمد الكتاب على مقاربة تجمع بين التحليل السياسي والاقتصادي والفلسفي، إلى جانب التحقيق الصحفي والسرد القصصي، مقدّماً صورة متعددة الطبقات للصين المعاصرة. يرصد وانغ مظاهر التفاؤل المرتبطة بتحسّن مستويات المعيشة واتساع الأفق الاقتصادي، ويعرض في الوقت نفسه آثار الهندسة الاجتماعية التي شملت تنظيم الحياة اليومية، ومراقبة الأقليات العرقية، وتقييد المجال السياسي، والتجارب العميقة التي خلّفتها سياسات كبرى مثل سياسة الطفل الواحد وإدارة الجائحة.
ويمتد تحليل وانغ ليشمل السياق الدولي، حيث يعرض قراءة مقارنة مع الولايات المتحدة، موضحاً اختلاف طرائق التفكير في إدارة الدولة وصنع القرار. يصف الصين بوصفها نموذجاً يقوم على أولوية التنفيذ وتحقيق النتائج، فيما يقدّم المجتمع الأمريكي بوصفه فضاءً تنظمه القواعد القانونية والإجرائية. ومن خلال هذا العرض، يبيّن كيف تكشف التجربتان عن مسارين مختلفين في التعامل مع السلطة، والإنجاز، والحريات الفردية.


الحياة بين الصين وأمريكا


يوضح الكاتب أن تجربته الشخصية في العيش بين الصين والولايات المتحدة وكندا شكّلت عدسته لفهم التوتر بين القوتين الكبريين، ويشير إلى أن التشابهات الثقافية والعملية بين المجتمعين الأمريكي والصيني أعمق مما توحي به العناوين السياسية. فكلتاهما تتحرّك بروح تنافسية عالية، وتقدّران الإنجاز السريع والمشاريع العملاقة، وتؤمنان بقدرة دولتهما على التأثير في العالم. ومن هذا المنطلق، يرى أن الصراع القائم يعكس تقارباً في الذهنيات بقدر ما يعكس اختلافاً في الأنظمة.
يشير وانغ إلى أن فهم الصين المعاصرة يبدأ من بكين، التي يقدّمها بوصفها مركز الثقل السياسي والنفسي للدولة. ويوضح أن المدينة تجسّد منطق الحكم القائم على السيطرة والتخطيط الشامل، حيث تتجاور المشاريع الضخمة مع شعور دائم بالقلق السياسي. فبكين، في نظره، ليست مجرد عاصمة، بل تمثيل حيّ للحزب الشيوعي والحكومة المركزية، ومكان تُصاغ فيه سياسات المستقبل تحت ضغط الهواجس الأمنية والسعي المحموم إلى التحكم بالمصير الوطني.
ويوضح الكاتب أن مسيرته المهنية كمحلل تقني وباحث اقتصادي أتاحـت له الاطلاع المباشر على طريقة تفكير النخب الاقتصادية العالمية في الصين. ويشير إلى أن الأسئلة التي طُرحت عليه من قبل المستثمرين ومديري المحافظ لم تنحصر في الأداء الاقتصادي الآني، بل امتدت إلى مستقبل النظام السياسي الصيني، وقدرته على الابتكار، وتأثير القيود الدولية في خيارات بكين الاستراتيجية. ومن خلال هذه الحوارات، تتبلور رؤية ترى الصين بوصفها حالة سياسية واقتصادية تُقاس بنتائجها لا بشعاراتها.
ويشير وانغ إلى أن تنقّله في مدن صينية صغيرة وبعيدة عن الأضواء كشف له حيوية اجتماعية وثقافية تغيب عن السرديات الإعلامية الشائعة. ويوضح أن التركيز المفرط على بكين يحجب ديناميات أوسع تعيشها البلاد، حيث يلتقي الإبداع الفردي مع قبضة الدولة القوية. وفي هذا التداخل، يقدّم الكاتب صورة لصين تتحرّك بسرعة هائلة، تُنتج إنجازات ملموسة، وتترك في الوقت نفسه آثاراً إنسانية عميقة، وهو ما يشكّل جوهر أطروحة الكتاب حول «الدولة الهندسية» وكلفتها الاجتماعية.


العالم ومنطق السرعة


يوضح الكاتب أن الدولة الصينية، في اندفاعها نحو البناء والتسريع، تمارس سلطة تتجسّد في الأشغال العامة الضخمة بقدر ما تتجسّد في إدارة الحياة اليومية. ويشير إلى أن التجربة المعيشة داخل الصين تكشف تلازماً دائماً بين تحسّن مستويات المعيشة واتساع أدوات الضبط السياسي، حيث تُدار المدن والسكان بعقلية تنظيمية صارمة. ومن خلال هذا الواقع المزدوج، يقدّم وانغ فهماً للدولة بوصفها قوة قادرة على الإنجاز السريع، وفي الوقت ذاته على إعادة تشكيل المجتمع وفق أولوياتها الاستراتيجية، وهو ما يفسّر الإيقاع اللاهث الذي يطبع مسار الصين المعاصرة.
يتوزّع الكتاب على فصول مترابطة ترسم مسار أطروحته الأساسية. يبدأ المؤلف بمقدمة تمهيدية تضع القارئ في إطار الفكرة العامة، ثم يفتتح الفصل الأول بمناقشة اختلاف منطق الحكم بين «المهندسين» و«القانونيين»، مبيّناً كيف يؤثّر هذا الاختلاف في صناعة القرار. ينتقل في الفصل الثاني إلى المشاريع العملاقة، مستعرضاً دور البنية التحتية الضخمة في تشكيل الاقتصاد والسياسة معاً. وفي الفصل الثالث يتناول سلطة التكنولوجيا، حيث تصبح الأدوات التقنية جزءاً من آليات الحكم والتنظيم الاجتماعي. يركّز الفصل الرابع على سياسة الطفل الواحد بوصفها مثالاً صارخاً للهندسة الاجتماعية وآثارها طويلة الأمد على المجتمع الصيني. أما الفصل الخامس فيتناول تجربة «صفر كوفيد» بوصفها امتداداً لمنطق السيطرة والتخطيط الشامل في إدارة الأزمات. ويخصّص الفصل السادس لتحليل مفهوم «الصين الحصن»، حيث تتداخل السيادة، والأمن، والانغلاق النسبي في مواجهة العالم. ويختتم الكتاب بفصل يدعو إلى فهم أعمق لعقلية المهندسين ودورها في تشكيل المستقبل، مقدّماً خلاصة فكرية تربط بين التجربة الصينية وأسئلة التنمية والسلطة في العالم المعاصر.
يقدّم الكتاب قراءة تحليلية معمّقة لمسار دولة تعيد تشكيل ذاتها عبر التخطيط والبناء والتجريب المستمر. ويبرز العمل بوصفه نصاً سياسياً يربط السلطة بالفعل، والسياسة بالنتائج، والدولة بالحياة اليومية لمواطنيها. ومن خلال هذا الطرح، يوسّع دان وانغ أفق فهم التحوّلات العالمية، ويضع القارئ أمام أسئلة جوهرية تتعلّق بمسارات التنمية، وحدود السلطة، وصناعة المستقبل في عالم سريع التحوّل.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق