نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
من حضرموت إلى مصر عبر بلاد الحرمين نحو العالمية
115 عاما على ميلاد علي أحمد باكثير, اليوم الأحد 28 ديسمبر 2025 10:55 مساءً
في الذكرى الخامسة عشرة بعد المئة لميلاد الأديب العربي الكبير علي أحمد باكثير (1910–1969)، تتجدد الحاجة إلى استحضار تجربته بوصفها واحدة من أكثر التجارب الأدبية العربية عمقا واتساعا. فباكثير لم يكن كاتبا تقليديا، بل مثقف عابر للحدود، تشكلت رؤيته عبر مسار جغرافي وثقافي امتد من حضرموت، ومر عبر بلاد الحرمين، واستقر في مصر، قبل أن ينفتح على الأفق الإنساني والعالمي، حاملا معه ملامح الهوية العربية الأصيلة التواقة للعالمية.
تحت شعار «علي أحمد باكثير: 115 عاما من التأثير»، شهدت الساحة الثقافية العربية حراكا لافتا أعاد قراءة إرثه، لا بوصفه تنوعا في الأجناس الأدبية فحسب، بل باعتباره مشروعا فكريا متكاملا، تفاعل مع قضايا الإنسان، واستوعب تحولات العصر، دون أن يتخلى عن جذوره العربية والإسلامية الراسخة.
سيرة متعددة الجغرافيا والانتماء
ولد باكثير في إندونيسيا، وتجذرت نشأته الأولى في حضرموت، قبل أن ينتقل إلى بلاد الحرمين، ثم يستقر في القاهرة، حيث وجد الفضاء الثقافي الأرحب للإنتاج والتأثير. ولم يكن هذا التعدد الجغرافي تفصيلا عابرا في سيرته، بل شكل ركيزة أساسية في تكوينه الفكري، إذ منحه قدرة نادرة على الجمع بين الخصوصية الثقافية والانفتاح الإنساني، وعلى التعبير عن الهوية العربية بلغة عالمية.
ومنذ ندوة مئوية ميلاده عام 2010م، التي احتضنها متحفه في قلعة صلاح الدين بالقاهرة، تزايد الاهتمام بإرثه الأدبي والفكري، وصولا إلى احتفالية عام 2025م، التي أعادت تسليط الضوء على محطات مفصلية في تجربته ومسارات تأثيره.
بلاد الحرمين: التكوين الروحي والوعي الحضاري
احتلت بلاد الحرمين مكانة محورية في حياة باكثير، إذ عاش في الحجاز بين عامي 1932 و1934، وهي مرحلة مفصلية في تشكل وعيه الديني والحضاري. وهناك، عايش التحولات التاريخية الكبرى لتوحيد المملكة العربية السعودية على يد الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود - طيب الله ثراه - واستلهم من تلك التجربة معاني الوحدة والاستقرار وبناء الدولة الحديثة.
وقد انعكست هذه المرحلة بوضوح في إنتاجه الأدبي المبكر، شعرا ومسرحا، فكتب قصائد تحتفي بوحدة الصف العربي، وتعبر عن انتمائه العميق للثقافة الإسلامية، كما قدم أعمالا مسرحية إصلاحية، من أبرزها مسرحية «همام في بلاد الأحقاف»، التي ناقشت قضايا النهضة والتغيير الاجتماعي. وظلت تلك التجربة الحجازية راسخة في ذاكرته، بوصفها منبعا للقيم التي وجهت مسيرته الإبداعية لاحقا.
التأثر بشوقي والوفاء للتراث
تجلى ارتباط باكثير بالتراث العربي الكلاسيكي في تأثره الواضح بأمير الشعراء أحمد شوقي، سواء في البناء الشعري أو في استلهام التاريخ والرموز الكبرى. وقد بلغ هذا التأثر ذروته حين نظم «نهج البردة»، في تجربة شعرية جمعت بين روح التراث وجمالية التعبير الحديث، مؤكدة قدرته على محاورة الكلاسيكيات بروح معاصرة.
موسوعية الإبداع واتساع المشروع
تميز علي أحمد باكثير بموسوعية إبداعية نادرة، مكنته من التنقل بين الشعر والرواية والمسرح والفكر التاريخي. ففي الشعر، كان من رواد التجديد، ويعد من أوائل من كتبوا الشعر المرسل في المسرح العربي من خلال مسرحيته «أخناتون ونفرتيتي». وفي الرواية، قدم أعمالا تاريخية خالدة، مثل «وا إسلاماه» و«الثائر الأحمر».
أما المسرح، فقد شكل المجال الأوسع لتجربته، حيث قدم نماذج متنوعة من المسرح الذهني والاجتماعي، من أبرزها «مسمار جحا» و«قصر الهودج». كما أنجز عملا فكريا موسوعيا بالغ الأهمية، تمثل في موسوعة «عمر بن الخطاب»، التي قدم فيها قراءة أدبية وفكرية معمقة لشخصية من أعظم شخصيات التاريخ الإسلامي.
من النص إلى الشاشة
وجدت أعمال باكثير طريقها مبكرا إلى الشاشة الفضية، التي قدمت عددا من نصوصه في أعمال خالدة، من بينها «سلامة» (1945)، و«وا إسلاماه» (1961)، و«الشيماء» (1972)، وهي أعمال أسهمت في توسيع دائرة تأثيره لدى الجمهور العام.
حضرموت تسعد بابنها
ضمن احتفالية مرور 115 عاما على ميلاد علي أحمد باكثير، أعلنت مؤسسة حضرموت للثقافة عن اقتناء المكتبة الخاصة بالأديب الراحل، تمهيدا لنقلها وإقامة متحف يليق بمكانته في حضرموت، بوصفه أحد أبرز رموز الأدب العربي في القرن العشرين.
وفي السياق ذاته، قدمت أعمال فنية خاصة بهذه المناسبة، من أبرزها فيلم وثائقي بعنوان «باكثير... عطاء كثير»، من سيناريو وإخراج المخرج القدير أحمد فؤاد درويش، تناول محطات حياته ومسيرته الفكرية والإبداعية بأسلوب توثيقي جمع بين العمق التاريخي والبعد الإنساني.
كما شهدت دار الأوبرا المصرية عرضا مسرحيا بعنوان «متحف باكثير»، من إعداد وإخراج المخرج المبدع الشاب أحمد فؤاد، قدم على المسرح الكبير بدار الأوبرا المصرية في 22 ديسمبر 2025م، في تجربة مسرحية معاصرة أعادت تقديم سيرة باكثير ورموزه الإبداعية بلغة فنية حديثة، لاقت تفاعلا واسعا من الجمهور والنقاد.
كلمة أخيرة، يبقى علي أحمد باكثير نموذجا للأديب العربي الذي جمع بين الأصالة والانفتاح، وبين الانتماء العميق للهوية العربية والطموح الإنساني نحو العالمية. وفي ذكرى ميلاده الخامسة عشرة بعد المئة، يتأكد أن مشروعه الأدبي لم يكن لحظة عابرة في تاريخ الثقافة العربية، بل تجربة حية لا تزال قادرة على الإلهام والتجدد.









0 تعليق